|
مجلة رحيق الإيمان مجلة رحيق الإيمان
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

مقدمة في علم مقاصد الشريعة --- فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري



الان مع الاستماع الى
مقدمة في علم مقاصد الشريعة 
 فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري



الان مع تحميل

مقدمة في علم مقاصد الشريعة --- فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

مقاصد الشريعة

فإن الله تعالى خلق الخلق لمقصد عظيم وغاية شريفة، ألا وهي عبادته سبحانه وتعالى وحده لا شريك له حيث قال عز من قائل: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[1].

ولم يترك الله تعالى الناس سدى يتصرفون في أمور حياتهم بحسب أهوائهم وشهواتهم قال سبحانه وتعالى: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى}[2] بل إنه سبحانه وتعالى أنزل إليهم شريعته أفضل الشرائع ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهدى، وأرسل رسوله – صلى الله عليه وسلم-  ليكون قدوة وأسوة للبشر في السير نحو الخير والسعادة.

وقد أنزل الله تعالى شريعته لأهداف ومقاصد عظيمة؛ حيث إنها تنظم في إطارها حياة الإنسان وتحقق مصالح العباد، وتدرأ عنهم المفاسد وتجعلهم يسيرون وفق منهج الله العليم الخبير الذي خلقهم ويعلم مصالحهم وما يحقق لهم ذلك قال الله تعالى: [ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير][3]. فما من خير إلا وقد دلت إليه شريعة الله تعالى، وما من شر إلا وقد حذرت عنه، فأصبح الناس في مهجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

ولما كان الله تعالى قد أنزل شريعته لهذه المقاصد والغايات فإن لمعرفة هذه الغايات والمقاصد والحكم أهمية عظيمة في التعرف على أحكام الله تعالى، واستنباط الأحكام لما تتجدد من الحوادث والوقائع، ولمعرفة حكم الله تعالى فيها وفق هذه المقاصد ومهتدياً بها.

كما أن عدم العلم بهذه المقاصد والحكم يؤدي إلى الوقوع في أخطاء كثيرة في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية، وإلى القصور في فهم هذه النصوص، بل قد يؤدي إلى استعمال هذه النصوص في غير موضعها، وأخذ مفاهيم غير مرادة منها.

ولما كانت الشريعة الإسلامية قد أنزلها الله تعالى لتكون منهاج الحياة للناس، وتكون مطبقة في الواقع، وكانت شريعة عالمية نزلت إلى الناس كافة، وقابلة للتطبيق في كل زمان ومكان، فلابد من معرفة مقاصدها وأهدافها لاستنباط الأحكام المناسبة للوقائع الجديدة منها وفق مقاصدها وغاياتها، فمعرفة مقاصد الشارع تمكن المسلمين من العيش تحت ظل الشريعة وتنظم حياتهم وفق أحكام الشريعة.

كما أن معرفة مقاصد الشارع تعين العالم والمجتهد على فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بالشكل الصحيح عند تطبيقها واستنباط الأحكام منها، وكما أن الاسترشاد بمقاصد الشارع تعين المجتهد لتحديد مدلولات الألفاظ ومعرفة معانيها عند الاستنباط منها.

وأيضاً فإن معرفة الحكم والعلل والمعاني المقصودة من النصوص الشرعية لابد منها لاستنباط الحكم لما تتجدد من الوقائع عن طريق القياس ومعلوم أن العلة أحد أركان القياس.

ونظرا لهذه الأهمية الكبيرة لمقاصد الشريعة أردت الكتابة فيها و اسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها.



الفصل الأول : تعريف مقاصد الشارع وإثباتها وأهميتها.

المبحث الأول: تعريف مقاصد الشارع:

المطلب الأول :تعريف المقاصد لغة

المقاصد لغة: جمع مقصد والمقصد مصدر من الفعل (قصد) يقال : قصد يقصد قصداً ومقصداً[4].

وتأتي كلمة القصد في اللغة لمعان عديدة:

المعنى الأول: الاعتماد والأم وإتيان الشيء[5].

قال ابن فارس: " القاف والصاد والدال أصول ثلاثة يدل أحدها على إتيان الشيء وأمه ..."[6].

ومنه: أقصده الهم : إذا أصابه فقتل مكانه وكأنه قيل ذلك لأنه لم يحد عنه[7].

المعنى الثاني: الكسر قال ابن فارس: "قصدت الشيء كسرته، والقصدة: القطعة من الشيء إذا تكسر، والجمع قصد"[8].

المعنى الثالث: القصد استقامة الطريق[9] ومنه قول الله تعالى: [وعلى الله قصد السبيل ...][10] أي: على الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة[11].



المطلب الثاني:تعريف مقاصد الشريعة اصطلاحاً

لم أجد عند العلماء المتقدمين الذين بحثت في كتبهم تعريفاً محدداً لمقاصد الشريعة حتى العلماء الذين عرفوا باهتمامهم فيها مثل الغزالي[12] والشاطبي[13] رحمهما الله تعالى.

وأما الغزالي فقد ذكر مقاصد الشريعة وبين أنواعها ولم يذكر تعريفاً محدداً لها وقال: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة"[14].

ويبدو أن الغزالي رحمه الله تعالى لم يرد بكلامه هذا أن يعطي حداً دقيقاً للمقاصد، وإنما أراد حصر المقاصد في الأمور المذكورة.

وأما الإمام الشاطبي مع كثرة عنايته بمقاصد الشريعة واهتمامه بها فلم يذكر أيضاً تعريفاً محددا لها وإنما بين أنواعها وتفاصيلها في كتابه الموافقات.

ويرى الدكتور أحمد الريسوني أن السبب في عدم ذكر الشاطبي تعريفاً للمقاصد مع اهتمامه بها يرجع إلى أنه لعل اعتبر الأمر واضحاً ويزداد وضوحاً بما لا مزيد عليه بقراءة كتابه المخصص للمقاصد من الموافقات ولعل ما زهده في تعريف المقاصد كونه كتب كتابه للعلماء بل للراسخين في علوم الشريعة[15].

إذا كان الأمر كذلك فلابد من البحث عن التعريف المحدد لمقاصد الشارع في كتب المتأخرين الذين كتبوا في الموضوع، وفيما يلي أذكر بعض عباراتهم في تعريفها:

1-وقد عرفها الشيخ ابن عاشور[16] رحمه الله تعالى بقوله:

"مقاصد التشريع العامة هي : المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة"[17].

ثم قال: "فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها"[18].

وذكر الشيخ ابن عاشور هذا التعريف عند ذكره لمقاصد الشارع العامة، وأراد به أن يعطي حدا لمقاصد الشارع العامة كما صرح هو بذلك، ويصلح هذا التعريف بأن يكون تعريفاً لمقاصد الشارع بمعناها العام والشامل.

ولذا عرف ابن عاشور مقاصد الشارع الخاصة في مكان آخر بقوله: "وهي الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة كي لا يعود بسعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيل مصالحهم العامة إبطالاً عن غفلة واستزلال هوى وباطل شهوة..."[19].

ثم تابع يقول: "ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس مثل قصد التوثيق في عقد الرهن وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة النكاح، ودفع الضرر المستدام في مشروعية الطلاق"[20].

وقد اعترض على هذا التعريف بأنه: "في الواقع ليس تعريفاً للمقاصد لأن التعريفات لا تكون بهذا الأسلوب وإنما هو بيان وتفصيل للمواطن التي تلتمس فيها المقاصد من الشريعة"[21].

ومهما تكن الاعتراضات على تعريفه للمقاصد إلا أنه أعطى تصوراً دقيقاً عن المقاصد العامة والخاصة للشارع ولذا نجد الذين جاءوا بعده قد بنوا تعريفاتهم على ما قال هو، وبذلك هو فتح الطريق أمام الآخرين.



2- تعريف الشيخ علال الفاسي (ت 1394هـ)[22].

وقد عرفها بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها"[23].

وتعريفه هذا يشتمل على مقاصد الشارع العامة والخاصة فأشار إلى مقاصد الشارع العامة بقوله: "الغاية منها أي من الشريعة وأشار بقوله: "والأسرار التي وضعها عند كل حكم من أحكامها، إلى مقاصد الشارع الخاصة من كل حكم من أحكامه"[24].

وهذا يتميز بالشمول والوضوح والإيجاز.

3-وعرفها الريسوني بقوله: "إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد"[25].

4-عرفها الزحيلي بقوله: "هي المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها أو هي الغاية من الشريعة والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها"[26].

وهذا التعريف في الحقيقة مركب من تعريف ابن عاشور في شطره الأول، وتعريف الفاسي في شطره الثاني كما هو واضح، وقد لاحظ ذلك أيضاً بعض الباحثين[27].

وأرى أن تعريف الريسوني هو أحسن هذه التعريفات، حيث قال: "هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد".

وذلك للأمور التالية:

1-وضوحه وعمومه حيث إنه واضح وشامل للمقاصد العامة والخاصة للشريعة.

2-أنه موجز وشأن التعريفات أن تكون موجزة بخلاف عبارة الشيخ ابن عاشور في ذلك حيث إنها طويلة.

3-أنه مبني على تعريفات وتوضيحات العلماء لمقاصد الشارع قديماً وحديثاً كما ذكر هو ذلك[28].

4-أنه ذكر مصالح العباد في التعريف وأن الشريعة وضعت لأجلها، وهذا يتفق مع آراء العلماء قديماً وحديثا في أن مقاصد الشريعة هي جلب المصلحة ودفع المفسدة كما سبق عبارة الغزالي في ذلك، وقال الآمدي[29]: "المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد لتعالي الرب عن الضرر والنفع"[30].

وقال الشاطبي: "إذا ثبت أن الشارع قد قصد بتشريع الحكم إقامة المصالح الدنيوية والأخروية وذلك على وجه لا يختل لها النظام"[31].

وقال الأستاذ عبد الوهاب الخلاف: "المقصود العام للشارع من تشريع الأحكام هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم"[32] .

وقال الدكتور عبد العزيز الربيعة: " أن الحكمة هي المعنى المقصود من شرع الحكم وذلك هو المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم جلبها أو تكميلها أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم درءها أو تقليلها"[33].



المبحث الثاني : تعريف الألفاظ المرادفة للمقاصد في الشريعة:

قد يعبر العلماء أحياناً عن المقاصد بالحكمة أو العلة أو المعاني، ولذا من المستحسن بيان هذه الألفاظ وعلاقتها بمقاصد الشارع.

المطلب الأول : تعريف الحكمة:

تستعمل كلمة حكمة بمعنى قصد الشارع أو مقصوده فيقال: هذا مقصوده كذا أو حكمته فلا فرق، وإن كان الفقهاء يستعملون لفظ الحكمة أكثر مما يستعملون لفظ المقصد[34].

وقد تتبع الدكتور عبد العزيز الربيعة استعمال لفظ الحكمة عند الأصوليين فتوصل إلى أنهم يستعملون لفظ الحكمة بإطلاقين:

الإطلاق الأول: " هو أن الحكمة هي المعنى المقصود من شرع الحكم وذلك هو المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم جلبها وتكميلها أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم درءها أو تقليلها"[35].

وأما الإطلاق الثاني فيراد به "المعنى المناسب لتشريع الحكم أي المقتضي لتشريعه"[36].

ويؤكد الدكتور بدران أبو العينين هذا الترادف بين المقصود من تشريع الحكم وحكمته في اصطلاح الفقهاء وغيرهم فيقول: "على أن جمهور الفقهاء كانوا يذهبون في اجتهاداتهم إلى أن ما شرعه الله من أحكام لم يشرعه الله إلا لمصلحة جلب منفعة لهم أو دفع مضرة عنهم فلهذا كانت تلك المصلحة هي الغاية المقصودة من التشريع وتسمى حكمة"[37].



المطلب الثاني : تعريف العلة:

العلة هي مصطلح واسع المدلول في علم أصول الفقه، وقد استعملت استعمالات ، والذي يهمنا هنا هو أن لفظ العلة عبر به عن مقصود الشارع، فيكون على هذا مرادفاً لمصطلح الحكمة وهذا هو الاستعمال الأصلي والحقيقي لمصطلح العلة ثم غلب استعماله فيما بعد بمعنى الوصف الظاهر المنضبط الذي تناط به الأحكام الشرعية، بناء على أن الحكمة وهي مناط الحكم ومقصوده في حقيقة الأمر ترتبط غالباً بذلك الوصف الظاهر المنضبط الذي يسهل إحالة الناس عليه في تعرفهم لأحكام الشارع[38].

وقد تتبع الدكتور عبد العزيز الربيعة استعمال مصطلح العلة عند الأصوليين فلاحظ أنه يطلق ويراد به معنيين:

المعنى الأول: المعنى المناسب لتشريع الحكم أي المقتضي لتشريعه؛ وذلك كشغل الرحم فإنه معنى يناسب إيجاب العدة حتى تتحقق بذلك مصلحة وهي عدم اختلاط الأنساب، أو المحافظة على النسل، وهذا المعنى هو ما يسمونه بالمعنى المناسب الذي ينشأ عنه الحكم[39].

والمعني الثاني: الوصف الظاهر المنضبط الذي يكون مظنة للمعنى المناسب لتشريع الحكم وهو في المثال المذكور الوطء[40].

والعلة في الحقيقة هي المعنى المناسب لتشريع الحكم وهو الشغل وعدم اختلاط الأنساب في المثال المذكور، ولكن لما كان المعنى المناسب خفياً كشغل الرحم لم ينط الشارع الحكم بها وإنما أناطه بوصف ظاهر منضبط يكون مظنة لوجود المعنى المناسب دفعاً للحرج والمشقة[41].

"وقد دفع هذا الأصوليين -ما عدا الشاطبي- إلى عدم تسمية المعنى المناسب بالعلة مع أنه العلة في الحقيقة، وأطلقوا عليه اسم الحكمة، وأطلقوا على الوصف الظاهر المنضبط الذي يكون مظنة للمعنى المناسب لتشريع الحكم اسم العلة؛ لأنه الوصف الذي ارتبطت به الأحكام وجوداً وعدماً"[42].

وهكذا خصص أهل الاصطلاح فيما بعد الأوصاف باسم العلة وإن قالوا أنها علة مجازاً؛ لأنها ضابط للعلة الحقيقية وسموا ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر حكمة مع اعترافهم بأنها العلة الحقيقية[43].

وعند تحديد العلة التي هي عبارة عن هذا الوصف اختلف الأصوليون في ذلك اختلافاً يرجع أساسه إلى عقيدة كل معرف في حكم تعليل أحكام الله تعالى[44].

وذكر هذا الخلاف خارج عن موضوع المقاصد، وقد بينت علاقة العلة بالمقاصد من خلال ذكر و استعراض إطلاقات العلماء لمعاني العلة، ولكن أود أن أشير هنا إلى أن بعض العلماء المهتمين بمقاصد الشارع مثل الإمام الشاطبي قد استعمل كلمة العلة بمعناها الحقيقي فهو يرى أن العلة هي المصالح الشرعية التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي، فالعلة عنده هي المصلحة التي رآها الشارع في طلب الفعل أو الإذن أو المفسدة التي رآها في طلب الكف[45].

فالمعنى الذي يعنيه الإمام الشاطبي لمصطلح العلة هو اللائق بأهل المقاصد؛ لأن البحث في المقاصد هو بحث في العلل الحقيقية التي هي مقاصد الأحكام بغض النظر عن كونها ظاهرة أو خفية منضبطة أو غير منضبطة فذاك يحتاج إليه عند إجراء الأقيسة الجزئية وعند تقديم الأحكام لعموم المكلفين[46] وهو خارج عن موضوع بحثنا والذي يهمنا هنا معرفة أن مصطلح العلة قد استعمل بالمعنى المرادف لمصطلح المقاصد وقد تبين لنا ذلك.

المطلب الثالث: تعريف المعاني :

مصطلح المعاني أو المعنى في حالة الإفراد هو أيضاً من الألفاظ التي كثيرا ما يعبر بها عن المقاصد وخاصة عند الفقهاء فيقولون: شرع الحكم لهذا المعنى أو المعنى المصلحي لهذا الحكم هو كذا، وقد سبق أن ذكرنا أن ابن عاشور عرف المقاصد بقوله: "هي المعاني والحكم".

فقد تتبع أحمد الريسوني استعمال هذا المصطلح عند العلماء، وتوصل إلى أنهم يستعملون مصطلح المعاني مرادفاً لمصطلح ( المقاصد) في كثير من الأحيان[47].



المبحث الثالث : إثبات مقاصد الشارع

المطلب الأول :إثبات المقاصد بالأدلة النقلية :

لقد اشتملت نصوص كثيرة من  الكتاب والسنة على بيان كثير من مقاصد الشريعة ولهذا ذكر كثير من العلماء رحمهم الله تعالى أن باستقرائهم علموا أنها جاءت لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم.

قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد"[48].

وقال العلامة ابن القيم[49]: "القرآن وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مملوءان من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح وتعليل الخلق بهما والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام ولأجلها خلق تلك الأعيان ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها ولكن يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة"[50].

ولا شك أن ذكر هذه الأدلة لا يتسع له مثل هذا البحث وهي كثيرة وفيما يلي أذكر بعض الطرق والأساليب التي جاءت نصوص القرآن والسنة بالاستدلال عليها.

الطريقة الأولى: إخبار الله تعالى في كتابه أنه حكيم لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، وكون الله تعالى حكيماً يقتضي أنه تعالى لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكم بالغة لأجلها فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى ذكر كلها وأذكر بعضها فيما يلي[51]:

1-قال الله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة}[52].

2-قال الله تعالى: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}[53].

3-قال الله تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}[54].

4-قال الله تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}[55].

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في وجه الاستدلال بهذه الآيات على إثبات مقاصد الشارع: " لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصلاً إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هداهم ولا إيصالهم إلى سعادتهم ودلالتهم على أسبابها وموانعها ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة ولا تكلم لأجلها ولا أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجلها لم يكن حكيماً ولا كلامه حكمة"[56].

ولذلك نفى الله تعالى أن يكون قد فعل شيئاً عبثاً قال الله تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وما خلقناهما إلا بالحق}[57].

الطريقة الثانية: اتصافه سبحانه وتعالى بالرحمة وأنه أرحم الراحمين وأن رحمته وسعت كل شيء "وذلك لا يتحقق إلا بأن تقصد رحمة خلقه بما خلقه لهم وبما أمرهم به فلو لم تكن أوامره لأجل الرحمة والحكمة والمصلحة وإرادة الإحسان إليهم لما كانت رحمة ولو حصلت الرحمة لكانت اتفاقية لا مقصودة وذلك لا يوجب أن يكون الآمر سبحانه أرحم الراحمين فتعطيل حكمته والغاية المقصودة التي لأجلها يفعل إنكار لرحمته في الحقيقة وتعطيل لها"[58].

1-قال الله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء}[59].

2-قال الله تعالى: {ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين}[60].

3-وأيضاً فقد أخبر الله تعالى أنه ما أرسل رسوله إلا رحمة للعالمين فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}[61].

قال الآمدي: "فلو خلت الأحكام عن حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة بل نقمة لكون التكليف بها محض تعب ونصب"[62].

الطريقة الثالثة: إخباره سبحانه وتعالى أنه فعل كذا وكذا وأنه أمر بكذا وكذا[63] أي بأي مسلك من مسالك العلة المعروفة في أصول الفقه وذلك كثير في آيات كثيرة، قال الإمام الشاطبي: "وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى"[64].

وذلك مثل:

1-قول الله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}[65].

2-وقول الله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}[66].

3-وقول الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}[67].

4-وقول الله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}[68].

5-وقول الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}[69].

والآيات في هذه الطريقة كثيرة جداً وقد ذكر العلامة ابن القيم كثيراً منها في كتابه شفاء العليل[70].

6-وقول الرسول – صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر"[71].

الطريقة الرابعة: إخبار الله سبحانه وتعالى بأن حكمه أحسن الأحكام وتقديره أحسن التقادير ولو لا مطابقة للحكمة والمصلحة المقصودة المرادة لما كان كذلك[72].

1-قال الله تعالى: {ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}[73].

2-قال الله تعالى: {فقدرنا ونعم القادرون}[74].

الطريقة الخامسة: التنصيص على بعض مقاصد الشريعة ؛وذلك مثل قول الله تعالى بعد آية الوضوء:

1-{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم}[75].

2-ومثل قول الله تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}[76].

3-وقول الله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}[77].

4-وقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا}[78].

5-وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}[79].

6-وقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}[80].

7-وقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[81].

8-وقوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}[82].

9-وقول الرسول –صلى الله عليه وسلم : "لا ضرر ولا ضرار"[83].

فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد: "لكان شرعها ضرراً محضاً وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص"[84].

وهناك طرق أخرى للاستدلال بالنصوص الشرعية ذكرها ابن القيم في كتابه شفاء العليل[85] وعلماء آخرون أيضاً ذكرها وأكتفي بذكر هذه الطرق المذكورة والله تعالى أعلم. [86]

المطلب الثاني :إثبات المقاصد بالأدلة العقلية :

قد استدل العلماء رحمهم الله تعالى على إثبات المقاصد بالأدلة العقلية كثيرة وأذكر فيما يلي من هذا المبحث بعضها.

1-"أن فعل الحي العالم الاختياري لا لغاية ولا لغرض يدعوه إلى فعله لا يعقل، بل هو من الممتنعات، ولهذا لا يصدر إلا من مجنون أو نائم أو زائل العقل؛ فإن الحكمة والعلة الغائية هي التي تجعل المريد مريدا،ً فإنه إذا علم بمصلحة الفعل ونفعه وغايته انبعث إرادته إليه، فإذا لم يعلم في الفعل مصلحة ولا كان فيه غرض صحيح ولا داع يدعوه إليه فلا يقع منه إلا على سبيل العبث هذا الذي لا يعقل العقلاء سواه، وحينئذ فنفي الحكمة والعلة والغاية عن فعل أحكم الحاكمين نفي لفعله الاختياري في الحقيقة وذلك أنقص النقص"[87].

2-أن تعطيل الحكمة والغاية المطلوبة بالفعل إما أن يكون لعدم علم الفاعل بها أو تفاصيلها وهذا محال في حق من هو بكل شيء عليم، وإما لعجزه على تحصيلها وهذا ممتنع في حق من هو على كل شيء قدير، وإما لعدم إرادته ومشيئته الإحسان إلى غيره وإيصال النفع إليه وهذا مستحيل في حق أرحم الراحمين[88].

3-أن مجرد الفعل من غير قصد ولا حكمة ولا مصلحة يقصده الفاعل لأجلها لا يكون متعلقاً للحمد فلا يحمد عليه حتى لو حصلت به مصلحة من غير قصد الفاعل لحصولها لم يستحق الحمد عليها، بل الذي يقصد الفعل لمصلحة وحكمة وغاية محمودة وهو عاجز من تنفيذ مراده أحق بالحمد من قادر لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لقصد الإحسان، والرب سبحانه وتعالى قد ملأ حمده السماوات والأرض وما بينهما وما بعد ذلك[89].



المبحث الرابع:أهمية مقاصد الشارع والحاجة إلى معرفتها

المطلب الأول : أهمية مقاصد الشارع :

إن لمعرفة مقاصد الشارع أهمية عظيمة بالنسبة للمسلم عموماً وبالنسبة لعلماء المسلمين بالأخص وترجع تلك الأهمية إلى اعتبارات هامة وفيما يلي أذكر بعض هذه الاعتبارات والمعاني:

1-إن الشريعة الإسلامية قد أنزلها الشارع الحكيم سبحانه وتعالى لأهداف وغايات شريفة عظمى وهذه الأهداف والغايات منها ما يتعلق بذات الرب سبحانه وتعالى ومنها ما يتعلق بالإنسان فرداً وجماعة. ولدرك هذه الأهداف والمقاصد أهمية كبرى ودور مهم في معرفة الأحكام الشرعية كما أن عدم معرفة هذه الأهداف يؤدي إلى الوقوع في أخطاء كثيرة من حيث الفهم والاستنباط والدعوة بل قد يؤدي إلى الوقوع في استخدام النصوص في غير موضعها والعمل بها في غير أماكنها[90].

2-تجاوب هذه المقاصد والمقاصد مع الخصائص العامة التي تتميز الشريعة الإسلامية من حيث كونها شريعة ربانية عالمية متوازنة واقعية صالحة للتطبيق ويحكم سير الحياة في كل زمان ومكان[91].

3-لما كانت أعظم مقاصد الشارع جلب مصلحة العباد ودرء المفسدة عنهم فلابد للمسلم أن يعرف مقاصد الشريعة ليعرف ما هو مصلحته وما هو مفسدة بالنسبة له حتى يتمكن من جلب المصالح ودرء المفاسد.

4-إن معرفة مقاصد الشارع تمكن المسلمين من العيش دائماً تحت ظل الشريعة الإسلامية وتنظم شؤون حياتهم وفقاً لأحكام الشارع الحكيم فتقوم حضارتهم وتبنى عمرانهم على الحق والعدل ويتحقق غاية الحق من الخلق بتحقيق المفهوم الشامل للعبادة الكاملة ليتناغم الإنسان مع الوجود المسبح بحمد ربه[92].

5-ونظراً لهذه الأهمية الكبيرة لمقاصد الشارع ومعرفتها نجد أن الفقه الإسلامي منذ أيامه الأولى قد ارتبط بمقاصد الشارع وخالطتها أحكامه وامتزجت بموجباتها فروعه شأنه في ذلك شأن أي أحكام تشريعية التي تبتغي الصحة والسلامة فإنها لابد أن تكون مرتبطة لمقاصد الشارع[93].

6-إن إحياء فقه المقاصد هو عمل ضروري لتجديد الفقه وتقوية دوره وإن لربط الفقه بمقاصد الشارع وكليات الشريعة دور مهم في ذلك وهو من أفضل الضمانات لإيجاد الضوابط الشرعية للحياة الإسلامية المعاصرة.



المطلب الثاني :حاجة المجتهد إلى معرفة مقاصد الشارع :

من المعلوم أن عمل المكلف إن قصد به ما يناقض قصد الشارع يكون باطلاً وأن الشريعة جاءت لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم وذلك يكون من جهة قصد الشارع لا من جهة قصد المكلف في حالة المخالفة لأن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف من داعية هواه وإدخاله تحت أمره ونهيه حتى يكون عبداً لله تعالى اختياراً[94].

وإذا كان الأمر كذلك فلابد من أن يعرف المكلف مقاصد الشارع بحيث تكون مقاصده تابعة لمقاصد الشارع ومحكومة بها.

ثم إن هذا المكلف إما أن يكون مقلداً أو مجتهداً.

فإن كان عامياً مقلداً فهو يتلقى أحكام الشريعة بدون معرفة تفاصيل مقاصدها؛ لأن معرفة المقاصد تفصيلاً نوع دقيق من أنواع العلم ولا يتمكن من لم يبلغ درجة كبيرة من العلم من معرفتها[95].

وإما إن كان المكلف مجتهداً فهو يقوله باستنباط الأحكام من النصوص والقواعد الشرعية وبتطبيق ذلك على الواقع فهذا لا بد له من معرفة مقاصد الشريعة ليكون استنباطه للأحكام الشرعية على ضوء المقاصد التي يقصدها الشارع.

ثم إن تصرف المجتهد في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية يقع على خمسة أنواع وفي كل نوع من هذه الأنواع يحتاج المجتهد إلى معرفة مقاصد الشارع[96].

النوع الأول: فهم مدلولات الألفاظ التي وردت في الكتاب والسنة بحسب الوضع اللغوي والاستعمال الشرعي الذي يقتضيه الاستدلال الفقهي وقد تكفل ببيان معظم هذا علماء الأصول فيحتاج المجتهد في هذا النوع إلى معرفة مقاصد الشارع بحيث يتأكد من دلالة اللفظ اللغوية والاستعمال الشرعي[97].

النوع الثاني: بعد التأكد من سلامة الدلالة بمقتضى اللغة أو بمقتضى الاستعمال الشرعي يبحث عما يعارض الأدلة التي لاحت له والتي استكمل إعمال النظر في استفادة مدلولاتها يعتقد أن تلك الأدلة سالمة مما يعارضها ويبطل دلالتها وما يقتضى عليها بالإلغاء وهو نسخها أو بالتقييد أو التخصيص، فإذا اعتقد أن الدليل سالم عن المعارض أعمله وإذا وجد له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً أو رجحان أحدهما على الآخر[98].

واحتياج المجتهد إلى معرفة المقاصد في هذا النوع أشد من النوع الأول؛ لأن باعث اهتدائه إلى البحث عن المعارض والتنقيب عن ذلك المعارض في مظانه يقوى ويضعف بمقدار ما ينقدح في نفسه في وقت النظر في الدليل الذي بين يديه أن ذلك الدليل غير مناسب لأن يكون مقصوداً للشارع على علاته، فبمقدار تشككه في أن يكون ذلك الدليل كافياً لإثبات حكم الشرع فيما هو بصدده يشتد تنقيبه على المعارض وبمقدار التشكك يحصل له الاقتناع بانتهاء بحثه عن المعارض عند عدم العثور عليه[99].

ثم إن في حالة وجود المعارض تساعد معرفة مقاصد الشارع المجتهد على معرفة الراجح بحيث يجعله يختار الأقرب إلى مقاصد الشارع.



النوع الثالث: قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع على ما ورد حكمه بعد أن يعرف علل التشريعات الثابتة بطريق من طرق مسالك العلة المبينة في أصول الفقه[100].

واحتياج المجتهد إلى معرفة مقاصد الشارع في هذا النوع ظاهر جداً حيث إن القياس يعتمد على إثبات العلل وإثبات العلل قد يحتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة كما في المناسبة وتخريج المناط وتنقيح المناط وإلغاء الفارق ولذلك جعلوا العلة ضابطاً للحكمة ووجوه الحكم الشرعية من المقاصد[101].

النوع الرابع: بيان حكم فعل أو واقعة وقعت للناس ولا يعرف حكمها فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة ولا نظير له لقياس عليه.

واحتياج المجتهد في هذا النوع لمقاصد الشارع أظهر؛ لأن هذا النوع كفيل بدوام أحكام الشريعة وعمومها للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الرسول r والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا، ومن هنا قد قال كثير من العلماء بحجية المصالح المرسلة وقال أيضاً العلماء بمراعاة الكليات الشرعية الضرورية وألحقوا بها الحاجية والتحسينية وسموا الجميع بالمناسب[102].

النوع الخامس: وما يسمى بالتعبدي من الأحكام الشرعية وعلى المجتهد في هذا النوع إذا عجز عن إدراك حكمة الشارع في حكم من الأحكام أن يتهم نفسه بالقصور ويستضعف علمه في جنب سعة الشريعة وكمالها وكل ما ورد عليه في شرع الله مما يصادم الرأي فإنه حق يتبين على التدرج حتى يظهر فساد ذلك الرأي، لأن الشريعة حق والحق لا يختلف في نفسه، وحاجة المجتهد في هذا إلى مقاصد الشريعة أنه بمقدار ما يتحصل من مقاصد الشريعة ويستكثر مما حصل من علمه فيها يقل بين يديه هذا النوع التعبدي والعلماء في مقام فهم مقاصد الشريعة متفاوتون[103].

ولذلك قد اشترط الإمام الشاطبي معرفة مقاصد الشارع لبلوغ درجة الاجتهاد فقال: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:

أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.

والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها"[104].

ثم قال: "فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي – صلى الله عليه وسلم - في العلم والفتيا والحكم بما أراه الله"[105].

المبحث الخامس :فائدة معرفة مقاصد الشارع :

1-وأما بالنسبة للمسلم بالصفة الخاصة فإن معرفة مقاصد الشارع تكوِّن عنده القناعة الكافية في دينه وشريعته وتجعله يسعى للالتزام بأحكامها ويحذر من مخالفتها ويرفض الاستعاضة عنها ويمتنع من التهرب والتحايل عليها لما سيعود عليه من نتائج وخيمة وأضرار ومفاسد عظيمة، كما أن معرفتها تعطي المسلم مناعة كافية وخاصة في وقتنا الحاضر ضد الغزو الفكري والتيارات المستوردة والمبادئ المزيفة والدعوات الهدامة التي يتستر أصحابها وراء دعايات كاذبة وشعارات خادعة[106].

2-وأما فائدتها بالنسبة للدعاة والمربين فإن فائدة مقاصد الشريعة تظهر في أن بمعرفتها يتمكنون من بيان المقاصد والأهداف الجليلة للشريعة الإسلامية ليتم الاقتناع بدين الله والترغيب في شريعته والتشويق إلى تكاليفه والدعوة إلى أحكامه والمطالبة بتطبيقه والالتزام به لأن النفس البشرية تحب ما ينفعها والشريعة جاءت لتحقيق المنافع والإسلام جاء لرعاية المصالح في الدنيا والآخرة ودين الله أنزل لاجتثاث الفساد[107].

3-وأما فائدتها بالنسبة لطالب العلم والباحثين فإن معرفتها تمكن الطالب والباحث من معرفة الإطار العام للشريعة وتكوِّن لديه التصور الكامل للإسلام وتحصل الصورة الشاملة لديه وتكون عنده النظرة الكلية الإجمالية لأحكامه وفروعه.

ثم إن دراسة مقاصد الشريعة تبين له الأهداف السامية التي ترمي إليها الشريعة في الأحكام وتوضح له الغايات الجليلة التي جاءت بها الرسل وأنزلت لها الكتب فيزداد إيماناً إلى إيمانه وقناعة في وجدانه ومحبة لشريعته وتمسكاً بدينه وثباتاً على صراط الله المستقيم فيفخر بدينه[108].

4-وأما فائدة معرفتها بالنسبة للعالم والمجتهد فإن معرفتها تعينهم على فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع كما أنه يمكنهم الاسترشاد بمقاصد الشريعة عند تحديد مدلولات الألفاظ ومعرفة معانيها لتعيين المعنى المقصود منها لأن الألفاظ والعبارات قد تتعدد معانيها وتختلف مدلولاتها كما هو معروف في أسباب اختلاف الفقهاء فتأتي المقاصد لتحديد المعنى المقصود للشارع[109].

كما أن ذلك يعينه على استنباط الأحكام عند عدم وجود النصوص الشرعية لوقائع وأحداث جديدة.

5-وأيضاً فإن معرفتها تعين المجتهد والفقيه على الترجيح عند تعارض الأدلة الكلية والجزئية في الفروع والأحكام ويكون هذا التعارض ظاهرياً بين الأدلة فيحتاج الباحث إلى معرفة السبل للتوفيق بينها، أو معرفة وسائل الترجيح وإن طرق الترجيح في الفقه وأصول الفقه كثيرة ومنها الترجيح بمقاصد الشريعة وهذه الفوائد تحتم على العالم والفقيه والمجتهد أن يضع مقاصد الشريعة نصب عينه لتضئ له الطريق وتصحح له المسار وتعينه على الوصول إلى الحق والعدل والصواب والسداد.

--------------------------------------------------------------------------------------------------------------




[1] الذاريات آية رقم 56.

[2] سورة القيامة آية رقم 36.

[3] سورة الملك آية رقم 14.

[4] ينظر: مقاييس اللغة لابن فارس 5/95، ولسان العرب لابن منظور 3/353.

[5] ينظر: معجم مقاييس اللغة 5/95 ، ولسان العرب 3/353.

[6] مقاييس اللغة 5/95.

[7] المرجع السابق 5/95.

[8] المرجع السابق 5/95 .

[9] ينظر: لسان العرب لابن منظور 3/353.

[10] سورة النحل آية رقم 9 .

[11] لسان العرب 3/353-354.

[12] هو محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي الشافعي الفقيه الأصولي وله مؤلفات في الأصول: المستصفى والمنخول وشفاء الغليل توفي سنة 505هـ ينظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 4/101.

[13] هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير بالشاطبي الإمام العلامة فقيه أصولي مفسر محدث لغوي مجتهد ومن مؤلفاته: الموافقات والاعتصام توفي سنة 790هـ ينظر ترجمته في شجرة النور الزكية في طبقات المالكية ص 231.

[14] المستصفى ص 174.

[15] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لأحمد الريسوني ص 5.

[16] هو محمد الطاهر بن عاشور من تونس شيخ جامع الزيتونة وفروعه عين عام 1932م شيخا للإسلام مالكياً ومن مؤلفاته: مقاصد الشريعة الإسلامية وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام توفي سنة 1393م ينظر: الإعلام للزركلي 6/174.

[17] مقاصد الشريعة الإسلامية ص 51.

[18] المرجع السابق ص 51.

[19] المرجع السابق ص 146.

[20] مقاصد الشريعة الإسلامية ص 146.

[21] الشاطبي ومقاصد الشريعة لحمادي العبيدي ص 119.

[22] ينظر: الإعلام للزركلي 4/246.

[23] مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص 3.

[24] ينظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للريسوني ص 6.

[25] المرجع السابق ص 7.

[26] أصول الفقه الإسلامي 2/1017.

[27] ينظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للريسوني ص 7.

[28] المرجع السابق ص 6-7.

[29] هو علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الفقيه الأصولي الملقب بسيف الدين له تصانيف عديدة ومنها: الأحكام في أصول الأحكام ومنتهى السول وقيل تصانيفه فوق العشرين توفي سنة 631هـ ينظر: طبقات الشافعية للسبكي 5/129.

[30] الإحكام في أصول الأحكام 3/274.

[31] الموافقات 2/28.

[32] أصول الفقه ص 231.

[33] السبب عند الأصوليين 2/17.

[34] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للريسوني ص 8.

[35] السبب عند الأصوليين 2/17.

[36] المرجع السابق 2/18.

[37] أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها ص 242-243، وينظر : نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للريسوني ص 8.

[38] ينظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للريسوني ص 10.

[39] السبب عند الأصوليين 2/143.

[40] المرجع السابق 2/145.

[41] السبب عند الأصوليين 1/144.

[42] المرجع السابق 1/145.

[43] ينظر: تعليل الأحكام لشلبي ص 13.

[44] السبب عند الأصوليين 1/145.

[45] ينظر: الموافقات 1/196، والسبب عند الأصوليين 1/154.

[46] ينظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لأحمد الريسوني ص 12.

[47] ينظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لأحمد الريسوني ص 13-14.

[48] الموافقات 2/4.

[49] هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جرير الزرعي ثم الدمشقي الفقيه الأصولي المفسر النحوي شمس الدين أبو عبد الله ابن القيم الجوزية، ومؤلفاته كثيرة ونافعة ومنها إعلام الموقعين عن رب العالمين وزاد العلماء وغيرها كثير توفي 751هـ ينظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/447.

[50] مفتاح دار السعادة ص 408.

[51] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ص 280، ومقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بأدلة ص/107.

[52] سورة النساء آية رقم 113.

[53] سورة البقرة آية رقم 32.

[54] سورة الزمر آية رقم 10 .

[55] سورة البقرة آية رقم 129 .

[56] شفاء العليل ص 380.

[57] سورة الدخان آية رقم 38و39.

[58] شفاء العليل لابن القيم ص 406.

[59] سورة الأعراف آية رقم 156.

[60] سورة المؤمنون آية رقم 109.

[61] سورة الأنبياء آية رقم 107.

[62] الإحكام في أصول الأحكام 3/286.

[63] ينظر: شفاء العليل لابن القيم ص 380، ومقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية ص/108.

[64] الموافقات 2/4.

[65] سورة النساء آية رقم 165.

[66] سورة المائدة آية 6.

[67] سورة البقرة آية رقم 143.

[68] سورة البقرة آية رقم 282.

[69] سورة الحشر آية رقم 6.

[70] ينظر: ص 380 إلى 388.

[71] رواه البخاري في كتاب الاستئذان 11/24 حديث 6247 ومسلم في صحيحه 3/1018 .

[72] شفاء العليل لابن القيم ص 405-406.

[73] سورة المائدة آية رقم 50 .

[74] سورة المرسلات آية رقم 23.

[75] سورة المائدة آية رقم 6.

[76] سورة البقرة آية رقم 183.

[77] سورة العنكبوت آية رقم 45 .

[78] سورة الحج آية رقم 39.

[79] سورة البقرة آية رقم 179.

[80] سورة الحج آية رقم 78.

[81] سورة البقرة آية رقم 185.

[82] سورة المائدة آية رقم 6.

[83] أخرجه الإمام مالك في الموطأ مرسلاً في كتاب الأقضية باب القضاء في الزمن حديث رقم (31) 2/745 وأخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الأحكام باب من بنى في حقه ما يضر بجاره حديث رقم (2340) 2/784 وأحمد في المسند 5/326 وصححه الألباني في إرواء الغليل 3/408 برقم 896.

[84] الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/286.

[85] ينظر ص 280 وما بعدها.

[86] ينظر : مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية ص/ 108_117.

[87] شفاء الغليل لابن القيم ص 422.

[88] المرجع نفسه ص 413.

[89] المرجع السابق ص 442.

[90] ينظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية لعبد الرحمن عبد الخالق ص 3.

[91] ينظر: الخصائص العامة للإسلام ليوسف القرضاوي ص 9.

[92] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية ص 2.

[93] فلسفة مقاصد التشريع لخليفة الحسن ص 3.

[94] ينظر: الموافقات 2/29 والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية ليوسف العالم ص 106.

[95] ينظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية ليوسف العالم ص 107.

[96] ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص 15.

[97] ينظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية ليوسف العالم ص 107 ومقاصد الشريعة لابن عاشور ص 15.

[98] المرجعان السابقان ص 107 وص 15.

[99] ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص 17.

[100] ينظر: المقاصد العامة ليوسف العالم ص 108 ومقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص 16.

[101] ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص 17.

[102] ينظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور ص 15-16 والمقاصد العامة للشريعة للعالم ص 19.

[103] ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص 15. والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية ليوسف العالم ص 109 .

[104] الموافقات 4/76.

[105] الموافقات 4/77.

[106] ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية للرماني ص 25.

[107] ينظر: المرجع السابق ص 25.

[108] مقاصد الشريعة للرماني ص 22.

[109] المرجع السابق ص 21.

بقلم : د . شيماء الفره

بقلم : د . شيماء الفره

السلام عليكم ورحمة الله:الهدف من مجلة رحيق الايمان أن تكون منبر اسلامى يهدف الى تعليم الدين الاسلامى الوسطى عن بعد دون التحيز لمذهب او طائفة معينة حيث يسن لنا التفقة فى الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولم تزل هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» --رواه البخاري ومسلم الدين الإسلامي مجموعة أحكام وضعها الله لعباده، مشتملة على جميع ما تصلح به حياتهم الدنيوية والأخروية، صالحة لكل زمان ومكان، على لسان النبي العالمي العربي سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، المؤيد من ربه العلي الكبير بالمعجزات الباهرات والآيات البينات --- كلمة أدارة المجلة

التعليقات